عن الثورة السورية والمسألة الكوردية, حوار مع الصحفي والناشط الكوردي السوري شيار نيّو

10001347_650017318387410_1105774884_n

‫شيار نَيّو صحفي وناشط سوريّ من أصل كوردي، يعيش في المنفى منذ حوالي 10 سنوات. يحدّثنا شيار في هذا الحوار عن العلاقة بين القوى الكوردية السورية وقوى المعارضة السورية الأخرى، قبل الثورة وبعدها؛ عن العلاقة الشائكة بين الناشطين الكورد وحزب الاتحاد الديمقاطي (PYD)؛ وعن أسئلة كوردية أخرى باتت أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى.‬

‫جوزف ضاهر: لنبدأ بمشاركتك في انتفاضة القامشلي عام 2004 والثورة السورية التي بدأت عام 2011. لماذا شاركتَ فيهما وماذا كان دورك؟

‫‫شيار نَيّو: لا أستطيع القول إنني شاركتُ في أيّ منهما، في الحقيقة، بحكم وجودي خارج سوريا وعدم قدرتي، كلاجئ ومطلوب من قبل أجهزة الأمن، على العودة إلى البلد. اقتصر دوري على مساعدة بعض الناشطين في الداخل في مسائل الاتصالات الآمنة وإنشاء وإدارة بعض المواقع الإلكترونية، وأحياناً في كتابة وتحرير الأخبار، بأسماء مستعارة، بحكم خبرتي المتواضعة في هذه الأمور. طبعاً بالإضافة إلى المشاركة في التظاهرات والفعاليات الداعمة للانتفاضة وللثورة في الخارج، كالكثير من السوريين في المنفى.‬

‫أما بخصوص لماذا، فلا أعتقد أن أي ناشط أو مثقف يؤمن فعلاً بما يتشدّق به من شعارات يمكنه ألا يشارك في حراكات شعبية من هذا النوع؛ حراكات انتظرها وحلم بها السوريون عقوداً. أعرف العديد من المثقفين والناشطين اليساريين الذين نأووا بأنفسهم عن كلا الحراكين بحجة العنف، العسكرة، تزايد نفوذ القوى الرجعية وإلى آخر هذه التبريرات الواهية. لا يسع المرء أن يقول لهؤلاء وأمثالهم سوى أن العالم أكثر تعقيداً من صوركم المثالية عن التغيير الاجتماعي-السياسي، وأنكم إن لم تشاركوا في أحداث كبرى كهذه وتركتم الساحة لغيركم، فليس لكم سوى أنفسكم لتلوموها إن لم تعجبكم النتيجة في نهاية المطاف.‬

‫- هل لك أن تخبرنا أكثر عن الانتفاضة الكوردية عام 2004؟‬

‫هذه من المرّات القليلة التي أقبل فيها التحدث عن انتفاضة القامشلي والثورة السورية، لأنني بصراحة أخجل من التحدث عن أحداث لم أشارك فيها فعلاً. هناك الكثيرون ممن هم أجدر وأولى مني بالحديث عنهما. لذا، كل ما سأقوله يعبّر عن وجهة نظري الشخصية بصفتي مراقباً خارجياً تقريباً – وإن كانت علاقاتي العائلية والاجتماعية داخل سوريا تجعل كلا الحدثين شخصياً أكثر.‬

‫بالنسبة لي، كانت انتفاضة القامشلي عام 2004 مثالاً كلاسيكياً عن تبلور حالة احتقان وغضب شعبيين ضد السلطة وانفجارهما بشكل عفوي في لحظة غير متوقعة، تماماً كما بدأت الثورة السورية في درعا في آذار 2011. امتلك كلاهما جميع العناصر التي تولّد انتفاضات شعبية من هذا النوع، من تبلور معاناة سياسية-اقتصادية-اجتماعية طويلة الأمد في حدث صادم، مروراً بكسر حاجز الخوف، وانتهاء بالعصبية الاجتماعية (الإثنية، العشائرية، المناطقية، إلخ) التي تدفع الناس في البداية إلى التلاحم والتآزر وتجاوز الهوية والخطاب “الوطنيين” اللذين يفرضهما النظام الحاكم كرادع أو لجام.‬

‫لكن أجهزة الأمن والجيش، وبمشاركة بعض المرتزقة من قبائل عربية محلية، نجحت – مع الأسف – في إخماد انتفاضة القامشلي سريعاً باللجوء إلى عنف شديد ومعمم، من قتل واعتقالات وترهيب. ولم يكن النظام لينجح في ذلك لولا تخاذل وجبن الأحزاب الكوردية السورية ومحاولتها، بالتواطؤ مع أجهزة الأمن، تهدئة الناس، ولولا تخاذل فصائل المعارضة السورية “العربية” وترددها في دعم هذا الحراك باعتباره انتفاضة شعبية سياسية سورية. بل إن العديد من المثقفين والناشطين السوريين العرب أدانوا الانتفاضة آنذاك واتهموها بشتى التهم والأوصاف السلبية، من عنف وخيانة وانفصالية وعنصرية وإلى ما هنالك. بعض هؤلاء الناشطين والمثقفين أنفسهم يعتبون اليوم على اليساريين الأوروبيين وغيرهم لعدم دعمهم الثورة السورية بذرائع مماثلة: الاستقرار، الممانعة، الإمبرالية، البعبع الإسلامي (الشبيه بالبعبع الكوردي إلى حد ما) وإلى ما هنالك.‬

‫- لنتعمق قليلاً في هذه النقطة، كيف ترى موقف المعارضة السورية من المسألة الكوردية؟‬

‫اسمح لي، قبل ذلك، أن أشدّد على أنني لا أعتقد أن هناك معارضة سورية واحدة، بل معارضات، وأن هناك مسألة كوردية واحدة، بل مسائل قد تختلف بحسب موقعك وموقفك الأخلاقي والسياسي منها، من اعتبارها مجرد حقوق ثقافية وديمقراطية إلى إقرار أو إنكار حق كورد سوريا في تقرير مصيرهم.‬

‫بالنسبة لي، وبالنسبة للكثير من الكورد السوريين، يختصر هذا الموقف الذي تحدثت عنه للتو (موقف الكثيرين من المعارضين والمثقفين السوريين العرب من انتفاضة القامشلي) يختصر عقدة هؤلاء التاريخية تجاه “المسألة الكوردية”. فهم يصرّون، من جهة، على ضرورة أن تعمل القوى السياسية الكوردية ضمن إطار وطني سوري “جامع”؛ لكنهم، من جهة أخرى، لا يبذلون أي جهد لمحاولة إعادة صياغة هذا الإطار بحيث يتضمن ويضمن الحقوق والمطالب القومية للكورد ولغيرهم من أقليات سوريا. وأتحدث هنا عن حقوق ومطالب سياسية واقتصادية ملموسة، وليس عن شعارات رمزية عامة ومطّاطة.‬

‫أقل ما يمكن أن يُقال في هذا الموقف أنه ازدواجي وانتهازي. لكن المشكلة أعمق من ذلك، في رأيي. تكمن المشكلة، كما يبدو لي، في عدم القدرة هؤلاء العروبيين على تخيّل هوية وطنية جامعة مبنية على الاختلاف، ليست اختزالية وإدماجية. بالطبع، لعبت سياسة نظام البعث تجاه الكورد (من قمع وتمييز، مترافقيين مع تعتيم وتجهيل شبه كاملين في كل ما خصّ الكورد، وإغلاق كل فضاءات الحوار والنقاش العام التي كان من شأنها أن تعاكس هذا التجهيل) لعبت دوراً كبيراً في تعميق هذا الشرخ العربي-الكوردي. لكننا لا نستطيع أن نلوم البعث على كل شيء، فموقف الكثير من القومويين العرب، ممن يعتبرون أنفسهم “تقدميين”، تجاه القضايا الكوردية في سوريا لا يقلّ شوفينية.‬

‫يمكننا أن نضيف إلى ذلك تقوقع الحركة القومية الكوردية في سوريا على نفسها، منذ الخمسينيات على الأقل، وعدم قدرتها على تخيل أشكال أخرى للنضال غير النضال المنغلق على نفسه، إن صحّ التعبير. وهي ظاهرة لها أسبابها التاريخية المعقدة وتمكن ملاحظتها في الكثير من حركات التحرر الوطني والقومي عبر العالم‬.

‫بدأت هذه القطيعة بين المعارضة(ات) الكوردية والعربية بالانحسار بعض الشيء بعد انفتاح بعض الأحزاب الكوردية السورية – خاصة حزبي “يكيتي” و”آزادي” – على بعض فصائل المعارضة “العربية” والمشاركة في فعالياتها واجتماعاتها، خاصة ضمن إطار “إعلان دمشق”. لكنه ظلّ، في رأيي، انفتاحاً جزئياً وبراغماتياً، كما دلّت على ذلك فيما بعد، بعد اندلاع الثورة، خلافات أساسية بين الطرفين داخل أطر المعارضة بخصوص اسم الجمهورية السورية (عربية أم لا)، كيفية تعريف الحقوق الكوردية وغيرها من خلافات‬.

‫العملية الأهم بكثير، في رأيي، في هذا الصدد كانت تفجر الثورة عام 2011، بكل ما عنته الثورة للسوريين من إعادة اكتشاف أنفسهم واكتشاف الآخرين الذين يشاركونهم هذا “الوطن” لكنهم لم يعرفوا عنهم شيئاً، ومن إعادة بناء هوية وطنية سورية أكثر تلوناً واختلافاً وأقل إقصاء. كان من اللافت، على سبيل المثال، رفع ناشطي الثورة لشعارات ولافتات حملت رسائل دعم وتضامن متبادل بين المناطق الكوردية والعربية، مثل الشعارات التي حملها متظاهرو عامودا والقامشلي وغيرهما تضامناً مع درعا وحمص وحلب وغيرها، أو اللافتات التي حملها متظاهرون في إدلب وحلب وحمص وغيرها تعبيراً عن تضامنهم مع عامودا والقامشلي وغيرهما من المناطق ذات الغالبية الكوردية، أو لافتات تهنئ الكورد بأعيادهم القومية أو تواسيهم بمآسيهم “الخاصة” (كاغتيال مشعل تمّو مثلاً). يمكن قراءة هذه الظاهرة من هذا المنظور الذي أتحدث عنه (بناء هوية وطنية جديدة)، وليس باعتبارها مجرد تعبير عن تضامن رمزي متبادل، من باب ردّ الجميل، أو عن تشارك في الضحويّة (الإحساس بكونك ضحية).‬

‫لكن يبدو أن هذه العملية الجذرية والخلاقة لم تطل أو تؤثر بعد على المعارضات السورية المؤسَّسة – الكوردية منها والعربية – التي مازالت أسيرة هوياتها وخطاباتها القديمة.‬

‫- كيف تطور الوضع في المناطق الكوردية منذ بداية الثورة؟ كيف تعامل نظام الأسد مع الحراك الشعبي في هذه المناطق؟ كيف هي العلاقة بين المجموعات الكوردية المختلفة والثوار السوريين، الجيش الحر، القوى الإسلامية، إلخ؟‬

‫يتهم الكثيرون حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني (PKK)، بالتواطؤ أو التعاون مع النظام. لا أعتقد أن هذا التوصيف دقيق. ما حدث، في تقديري، كان التقاء مصالح براغماتياً بين الطرفين عام 2012.‬

‫بالنسبة للنظام، كان الهدف الأول من هذا “التفاهم” (أي انسحاب أجهزة النظام من المناطق ذات الغالبية الكوردية وتسليم إدارتها لـ PYD بشكل أساسي) هو تحييد المناطق الكوردية عن الثورة، عسكرياً وسياسياً (أي عدم فتح جبهة كبرى أخرى في شمال شرق البلاد وخلق انقسام في المعارضة على أسس إثنية وطائفية). الهدف الثاني كان استخدام الـ PYD كورقة ضغط على تركيا، الداعم الأكبر آنذاك للجيش السوري الحرّ، أملاً في صفقة مستقبلية مع تركيا على غرار الصفقة التي باع فيها النظام عبد الله أوجلان عام 1999. ويبدو أن النظام قد فشل في بعض هذه الغايات ونجح في بعضها، لأسباب معقدة ومتشابكة لا يسعنا التفصيل فيها هنا‬.

‫بالنسبة لـ PYD، كانت هذه فرصة ذهبية لفرض سيطرته وتوسيع رقعة نفوذه في المناطق الكوردية في سوريا. هذه البراغماتية السياسية وهذا التعطش للسلطة عاملان مهمّان لفهم الحزب في تعامله مع النظام والثورة والجيش الحر، وحتى الكورد أنفسهم. وهما يفسّران العديد من الظواهر التي يستغرب منها بعض المعلقين والمحللين، مثل قمع قوات الحزب للناشطين المستقلين أو الناقدين لسياسات الحزب، على طريقة نظام البعث. يمكن الاستشهاد في هذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر، بمجزرة عامودا في تموز 2013، التي فتحت فيها قوات حماية الشعب النار على متظاهرين عزّل؛ أو إغلاق راديو آرتا في شباط 2014، وهي إذاعة جديدة مستقلة، بحجة أنها غير مرخّصة. من ذلك أيضاً تهجم قوات الحزب على أعضاء الأحزاب الكوردية الأخرى واعتقال بعضهم بذرائع مختلفة؛ التحكم بالموارد المالية والغذائية في المناطق الكوردية وتوزيعها بشكل غير عادل على أساس المحسوبيات الحزبية… وإلى ما هنالك من ممارسات قمعية تذكر الناس، محقّة، بممارسات نظام الأسد.‬

‫بعد بدء الفصائل الإسلامية المسلحة – داعش وجبهة النصرة، على وجه الخصوص – بالهجوم على المناطق الكوردية في أواسط 2013 واشتعال حرب لا تزال مستمرة بينها وبين قوات الـ PYD، بدأ موقف الكثير من الكورد السوريين تجاه الحزب ووحدات حماية الشعب التي يهيمن عليها بالتغير.‬

‫تخوض الفصائل الإسلامية معركتها هذه تحت راية الإسلام تارة وراية العروبة تارة أخرى، لكن المحرك الحقيقي وراءها هو الحكومة التركية، عدو الكورد اللدود، بالإضافة إلى الموقع الاستراتيجي لهذه المناطق على الحدود التركية والعراقية وغناها بالنفط. اجتمعت هذه العوامل على دفع الكثير من الكورد السوريين إلى القبول بسلطة الـ PYD من منطلق الدفاع عن الذات أو خوفاً من فوز الإسلاميين المتشددين وفرضهم، بالتالي، حكمهم وقيمهم الغريبة عن السكان المحليين، كما حدث في الرقة. أضف إلى ذلك أن الكورد إجمالاً أقل تديناً وتعصباً دينياً من الكثير من الجماعات السورية الأخرى. فرغم كل شيء، لا يزال الـ PYD يتحدث عن العلمانية والديمقراطية وحقوق المرأة، إلخ. حتى أولئك الأكثر انتقاداً للحزب باتوا ينظرون إليه من منطلق “أهون الشرّين”. أعرف العديد من الناشطين الكورد في القامشلي وعامودا وغيرهما ممن كانوا، قبل هذه التطورات، ينظمون احتجاجات ويكتبون ضد الـ PYD، لكنهم قرروا فجأة التطوع في صفوف وحدات حماية الشعب التابعة للحزب والقتال ضد الفصائل الإسلامية للأسباب التي ذكرتها.‬

‫وعزز هذا التغير في موقف الكثير من الكورد السوريين تجاه الـ PYD الموقفُ الازوداجي للمعارضة السورية – وخاصة الائتلاف والفصائل الإسلامية المسلحة الأخرى – من داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، حتى بعد إعلان الجيش الحرّ الحرب عليها. إذ تزخر صفحات ومواقع المعارضة بالانتقادات لتشدد داعش والسخرية من ممارساتها، لكن حين يتعلق الموضوع بقتال داعش “مع قوات الـ PYD وحلفائه في المناطق الكوردية، يتحول اسم داعش إلى “الجيش الحرّ” ويغدو الحديث كله عن صراع “قوات المعارضة” مع “الانفصاليين الكورد”.‬

‫لا أعتقد شخصياً أن الخطأ مقصود دائماً. هو غالباً نتيجة للبعبع الكوردي ولعدم القدرة على تخيّل هوية وطنية جامعة غير إقصائية، الأمرين اللذين سبق أن أشرتُ إليهما. وفي اعتقادي أنه إن لم يتحسن أداء فصائل المعارضة السورية وخطابها فيما تعلّق بالقضايا الكوردية – على نحو جذري وعميق وليس براغماتي مراوغ – فإنها لن تقود إلا إلى تقوية الـ PYD في المناطق الكوردية، على حساب القوى الثورية الشعبية وعلى حساب أي أمل في وطن سوريّ واحد للجميع.‬

‫- ما رأيك في حزب العمال الكوردستاني بشكل عام؟ وما رأيك بالإدارة الذاتية والحكم الذاتي في كوردستان سوريا؟‬

‫سبق أن قلتُ إن ممارسات الحزب، السابقة والحالية، تذكّر بممارسات نظام الأسد وسواه من الأنظمة الشمولية القمعية. وهو تشابه له أسبابه الموضوعية. فحزب العمال الكوردستاني حزب قومي إيديولوجي مبني أساساً على نظام عسكري صارم وولاء أعمى، وعلى تأليه القائد وفكرة الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع. لا يختلف الحزب في ذلك عن الكثير من الأحزاب اليسارية العربية التي ابتليت بهذه الأمراض اللينينية-الستالينية.‬

‫أما بخصوص تجربة الإدارة الذاتية، فعلينا أولاً أن نفرّق بين مطامح وحقوق جماعة ما بالاستقلال والحكم الذاتي وبين نسخة معينة تدّعي تجسيد هذه المطامح والحقوق عملياً. فإذا كنا نتحدث عن حق الكورد السوريين في الحكم الذاتي – إن هم أرادوا ذلك – فأنا طبعاُ أؤيد هذا الحق، كما يُفترض بكل شخص يدّعي اليسارية والتقدمية أن يؤيده. كل من يقول عدا ذلك منافق أو فاشيّ. بالنسبة لي، أنا ضدّ الدول القومية، والدولة بشكل عام. لكن إذا كانت مجموعة من الناس، أو غالبيتها، تصبو أو تسعى إلى هدف معين – بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي معه – أو إذا كانت الدولة القومية هي الإطار الوحيد الممكن الذي قد يحقق لها حالياً قدراً أكبر من الحرية والعدالة، فأنا بالطبع مع هذه المطامح والمساعي.‬

‫أما إن كنا نتحدث عن مشروع الـ PYD الحالي في المناطق الكوردية السورية، فيغدو الأمر أكثر تعقيداً. فمن جهة، يبدو أن التجربة بدأت تحقق مكتسبات محمودة، كالإدارة العلمانية لأجهزة الدولة، ضمان حقوق أكثر للنساء، مشاركة الإقليات في الإدارة، ومشاركة أكبر وأكثر فاعلية للسكان المحليين في إدارة شؤونهم، خاصة مع غياب دولة قوية مؤسسة. وعلينا هنا أن نتذكر أن الـ PYD يستند إلى تجربة غنية في الإدارة الذاتية عاشها ويعيشها رفاقهم في كوردستان- تركيا.‬

‫لكن، من جهة أخرى، قد تنتهي التجربة إلى تعزيز هيمنة الـ PYD وزيادة القمع، بذريعة حماية هذه المكتسبات، مع التفريط التدريجي فيها مقابل مصالح سياسية ضيقة. هذا خطر حقيقي وممكن‬.

‫لذلك، أتصور أني لو كنت أعيش في أحد الكانتونات الكوردية الثلاثة التي تخضع حالياً لحكومة الإدارة الذاتية، لكنت شاركت في التجربة بهذا الشكل أو ذاك، وحاولت قدر الإمكان العمل مع ناشطين وفاعلين آخرين لإنقاذها من المخاطر التي ذكرتها.‬

‫- هل تعتقد أنه من الممكن بناء قوة ثالثة، ديمقراطية وتقدمية، تضمن تحقيق أهداف الثورة الأصلية وتكون مستقلة عن النظام والقوى الإسلامية الرجعية؟‬

‫لا أحبّ هذه التسمية، “القوة الثالثة”، والتي باتت تُطلق على القوى الكوردية السورية أو على الـ PYD لتمييزها عن النظام وعن المعارضة “العربية” أو “الإسلامية”. ذلك أنها تفترض، أو تفرض، تجانس القوى الكوردية ووحدة تطلعاتها، تماماً كما تفترض تجانس المعارضة.‬

‫على كل حال، أعتقد أن ما حصل ويحصل في المناطق الكوردية – رغم كل تحفظاتي وانتقاداتي للـ PYD – خطوة نحو الأمام إذا ما قارنّاه بالبدائل الأخرى التي كان يمكن أن تسيطر على المنطقة (النظام أو الإسلاميين المتشددين). لكنني لا أعتقد أن الـ PYD والـ PKK حوامل سياسية مناسبة لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الحقة التي ينشدها الكثيرون في سوريا. لا أشك لحظة في أن الحزب – إن استمرت الأمور في السير على هذا النحو – سيعيد إنتاج نظام شمولي قمعي على غرار ما فعله حزب البعث أو الحزبان الحاكمان في إقليم كوردستان العراق، مع الفوارق في تجاربها. ينطبق الكلام نفسه على الكثير من فصائل المعارضة السورية الأخرى، من القوى الإسلامية المتشددة إلى الأحزاب اليسارية القومية التي تنزع نحو الفاشية. الأمل أن الحراك الثوري سيستمر ويفرز أشكال انتظام وتنظيم مختلفة وبنى جديدة أكثر اتساقاً مع قيم وأهداف الثورة الأصلية.‬

‫لكن، كلما استمر العنف الأعمى (من قبل النظام وداعميه بشكل أساسي)، وطالما استمر اليساريون في التركيز على نشاطات المجتمع المدني وترك ساحة الصراع السياسي والمسلح للآخرين، ضعفت فرص تحقق هذه الآمال. بالطبع لا يمكن الرجوع بسهولة، بعد كل ما حصل، إلى زمن اللاديمقراطية وانعدام الحريات، في المدى القريب على الأقل. لكن تحقيق العدالة الاجتماعية الحقة مسألة أخرى.‬

Leave a comment